الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الخِطط المقريزية المسمى بـ «المواعظ والاعتبار بذكر الخِطط والآثار» **
اعلم أن النظر في المظالم عبارة عن قود المتظالمين إلى التناصف بالرهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة وكان من شروط الناظر في المظالم أن يكون جليل القدر نافذ الأمر عظيم الهيبة ظاهر العفة قليل الطمع كثير الورع لأنه يحتاج في نظره إلى سطوة الحماة وتثبت القضاة فيحتاج إلى الجمع بين صفتين الفريقين وأن يكون بجلالة القدر نافذ الأمر في الجهين وهي خطة حدثت لفساد الناس وهي كلّ حكم يعجز عنه القاضي فينظر فيه من هو أقوى منه يدًا. وأوّل من نظر في المظالم من الخلفاء أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. وأوّل من أفرد للظلامات يومًا يتصفح فيه قصص المتظلمين من غير مباشرة النظر عبد الملك بن مروان فكان إذا وقف منها على مشكل واحتاج فيها إلى حكم ينفذ ردّه إلى قاضيه ابن إدريس الأزدي فينفذ فيه أحكامه. وكان ابن إدريس هو المباشر وعبد الملك الآمر ثم زاد الجور فكان عمر بن عبد العزيز رحمه الله أّل من ندب نفسه للنظر في المظالم فردّها ثم جلس لها خلفاء بني العباس وأوّل من جلس منهم المهدي محمد ثم الهادي موسى ثم الرشيد هارون ثم المأمون عبد الله وآخر من جلس منهم المهتديّ بالله محمد بن الواثق وأوّل من أعلم أنه جلس بمصر من الأمراء للنظر في المظالم الأمير أبو العباس أحمد بن طولون فكان يجلس لذلك يومين في الأسبوع فلما مات وقام من عبده ابنه أبو الجيش خمارويه جعل على المظالم بمصر محمد بن عبيدة بن حرب في شعبان سنة ثلاث وسبعين ومائتين ثم جلس لذلك الأستاذ أبو المسك كافور الإخشيدي وابتدأ ذلك في سنة أربعين وثلاثمائة وهو يومئذٍ خليفة الأمير أبي القاسم أونوجور بن الإخشيد فعقد مجلسًا صار يجلس فيه كل يوم سبت ويحضر عنده الوزير أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات وسائر القضاة والفقهاء والشهود ووجوه البلد وما برح على ذلك مدّة أيامه بمصر إلى أن مات فلم ينتظم أمر مصر بعده إلى أن قدم القائد أبو الحسن جوهر بجيوش المعز لدين الله أبي تميم معدّ فكان يجلس للنظر في المظالم ويوقع على رقاع المتظلمين فمنت توقيعاته بخطه على قصة رُفعت إليه سوء الاجترام أوقع بكم طول الانتقام وكفر الأنعام أخركم من حفظ الذمام فالواجب فيكم ترك الإيجاب واللازم لكم ملازمة الاجتناب لأنكم بدأتم فأسأتم وعدتم فتعدّيتم فابتداؤكم ملوم وعودكم مذموم وليس بينهما فرجة تقتضي إلاّ الذم لكم والإعراض عنكم ليرى أمير المؤمنين رأيه فيكم. ولما قدم المعز لدين الله إلى مصر وصارت دار خلافة استقرّ النظر في المظالم مدّة يضاف إلى قاضي القضاة وتارة ينفرد بالنظر فيه أحد عظماء الدولة فلما ضعف جانب المستنصر بالله أبي تميم معدّ بن الظاهر وكانت الشدّة العظمى بمصر قدم أمير الجيوش بدر الجمالي إلى القاهرة وولي الوزارة فصار أمر الدولة كله راجعًا إليه واقتدى به من بعده من الوزراء وكان الرسم في ذلك أن الوزير صاحب السيف يجلس للمظالم بنفسه ويجلس قبالته قاضي القضاة وبجانبه شاهدان معتبران ويجلس بجانب الوزير الموقع بالقلم الدقيق ويليه صاحب ديوان المال ويقف بين يدي الوزير صاحب البلاد واسفهسلار العساكر وبين أيديهما الحجاب والنوّاب على طبقاتهم ويكون هذا الجلوس يومين في الأسبوع وآخر من تقلد المظالم في الدولة الفاطمية رزيك بن الوزير الأجلّ الملك الصالح طلائع بن رزيك وفي وزارة أبيه وكتب له سجل عن الخليفة منه وقد قلدك أمير المؤمنين النظر في المظالم وإنصاف المظلوم من الظالم وكانت الدولة إذا خلت من وزير صاحب سيف جلس للنظر في المظالم صابح الباب في باب الذهب من القصر وبين يديه الحجاب والنقباء وينادي مناد بحضرته يا أرباب الظلامات فيحضرون إليه فمن كانت ظلامته مشافهة أرسلت إلى الولاة أو القضاة رسالة بكشفها ومن تظلم من أهل النواحي التي خارج القاهرة ومصر. فإنه يحضر قصة فيها شرح ظلامته فيتسلمها الحاجب منه حتى تجتمع القصص فيدفعها إلى الموقّع بالقلم الدقيق فيوقع عليها ثم تحمل بعد التواقيع في خريطة إلى ما بين يدي الخليفة فيوقع عليها ثم تخرج في خريطتها إلى الحاجب فيقف على باب القصر ويسلم كلّ توقيع إلى صاحبه. وأوّل من بنى دار العدل من الملوك السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمة الله تعالى عليه بدمشق عندما بلغه ظلم نوّاب أسد الدين شيركوه بن شادي إلى الرعية وظلمهم الناس وكثرة شكواهم لى القاضي كمال الدين الشهرزوري وعجزه عن مقاومتهم فلما بنيت دار العدل أحضر شيركوه نوّابه وقال: إن نور الدين ما أمر ببناء هذه الدار إلاّ بسببي والله لئن أحَضرت إلى دار العدل بسبب أحد منكم لأصلبنه فامضوا إلى كل من كان بينكم وبينه منازعة في ملك أو غيره فافصلوا الحال معه وأرضوه بكل طريق أمكن ولو أتى على جميع ما بيدي. فقالوا إن الناس إذا علموا بذلك اشتطوا في الطلب. فقال: لخروج أملاكي عن يدي أسهل علي من أن يراني نور الدين بعين أني ظالم أوي ساوي بيني وبين أحد من العامة في الحكومة. فخرج أصحابه وعملوا ما أمرهم به من إرضاء أخصمهم وأشهدوا عليهم. فلما جلس نور الدين بدار العدل في يومين من الأسبوع وحضر عنده القاضي والفقهاء أقام مدّة لم يحضر أحد يشكو شيركوه فسأل عن ذلك فعرف بما جرى منه ومن نوابه فقال الحمد لله الذي جعل أصحابنا ينصفون من أنفسهم قبل حضورهم عندنا. وجلس أيضًا السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب في يومي الإثنين والخميس لإظهار العدل ولما تسلطن الملك المعز أيبك التركمانيّ أقام الأمير علاء الدين أيدكين البندقداري في نيابة السلطنة بديار مصر فواظب الجلوس في المدارس الصالحية بين القصرين ومعه نوّاب دار العدل ليرتب الأمور وينظر في المظالم فنادى بإراقة الخمور وأبطال ما عليها من المقرّر وكان قد كثر الإرجاف بمسير الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب الشام لأخذ مصر فلما انهزم الملك الناصر استبدّ الملك المعز أيبك أحدث وزيره من المكوس شيئًا كثيرًا ثم إنّ الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداريّ بنى دار العدل وجلس بها للنظر في الظالم. كما تقدّم فلما بنى الإيوان الملك الناصر محمد بن قلاون واظب الجلوس يوم الاثنين والخميس فيه وصار يفصل فيه الحكومات في الأحايين إذا أُعييّ من دونه فصلها فلما استبدّ الملك الظاهر برقوق بالسلطنة عقد لنفسه مجلسًا بالإصطبل السلطانيّ من قلعة الجبل وجلس فيه يوم الأحد ثامن عشري شهر رمضان سنة تسع وثمانين وسبعمائة وواظب ذلك في يومي الأحد والأربعاء ونظر في الجليل والحقير ثم حوّل ذلك إلى يومين الثلاثاء ولاسبت وأضاف إليهما يوم الجمعة بعد العصر وما زال على ذلك حتى مات فلما ولى ابنه الملك الناصر فرج بعده واستبدّ بأمره جلس للنظر في المظالم بالإصطبل اقتداءً بأبيه وصار كاتب السرّ فتح الدين فتح الله يقرأ القصص عليه كما كان يقرؤها على أبيه فانتفع أناس وتضرّر آخرون بذلك وكان الضرر أضعاف النفع ثم لما استبدّ الملك المؤيد شيخ بالمملكة جلس أيضًا للنظر في المظالم كما جلسا والأمر على ذلك مستمرّ إلى وقتنا هذا وهو سنة تسع عشرة وثمانمائة. وقد عُرف النظر في المظالم منذ عهد الدولة التركية بديار مصر والشام بحكم السياسة وهو يرجع إلى نائب السلطنة وحاجب الحجاب والي البلد ومتولي الحرب بالأعمال وسيرد إن شاء الله تعالى الكلام في حكم السياسة عن قريب. خدمة الإيوان المعروف بدار العدل كانت العادة أنّ السلطان يجلس بهذا الإيوان بكرة الإثنين والخميس طول السنة خلا شهر رمضان فإنه لا يجلس فيه هذا المجلس وجلوسه هذا إنما هو للمظالم وفيه تكون الخدمة العامّة واستحضار رسل الملوك غالبًا فإذا جلس للمظالم كان جلوسه على كرسيّ إذا قعد عليه يكاد تلحق الأرض رجله وهو منصوب إلى جانب المنبر الذي هو تخت الملك وسرير السلطنة وكانت العادة أولًا أن يجلس قضاة القضاة من المذاهب الأربعة عن يمينه وأكبرهم الشافعيّ وهو الذي يلي السلطان ثم إلى جانب الشافعيّ الحنفيّ ثم المالكيّ ثم الحنبليّ وإلى جانب الحنبليّ الوكيل عن بيت المال ثم الناظر في الحسبة بالقاهرة ويجلس على يسار السلطان كاتب السرّ وإن كان الوزير من أرباب السيوف كان واقفًا على بعد من بقية أرباب الوظائف وإن كان نائب السلطنة فإنه يقف مع أرباب الوظائف ويقف من وراء السلطان صفان عن يمينه ويساره من السلاحدارية والجمدارية والخاصكية ويجلس على بعد بقدر خمسة عشر ذراعًا عن يمنته ويسرته ذوو السنّ القدر من أكابر أمراء المئين ويقال لهم أمراء المشورة ويليهم من أسفل منهم أكابر الأمراء وأرباب الوظائف وهم وقوف وبقية الأمراء وقوف من وراء أمراء المشورة ويقف خلف هذه الحلقة المحيطة بالسلطان الحجاب والدوادارية لإعطاء قصص الناس وإحضار الرسل وغيرهم من الشكاة وأصحاب الحوائج والضرورات فيقرأ كاتب السرّ وموقعو الدست القصص على السلطان فإن احتاج إلى مراجعة القضاة راجعهم فيما يتعلق بالأمور الشرعية والقضايا الدينية وما كان متعلقًا بالعسكر فإن كانت القصص في أمراء الإقطاعات قرأها ناظر الجيش فإن احتاج إلى مراجعة في أمر العسكر تحدّث مع الحاجب وكاتب الجيش فيه وما عدا ذلك يأمر فيه السلطان بما يراه وكانت العادة الناصرية أن تكون الخدمة في هذا الإيوان على ما تقدّم ذكره في بكرة يوم الإثنين وأما بكرة يوم الخميس فإن الخدمة على مثل ذلك إلاّ أنه لا يتصدى السلطان فيه لسماع القصص ولا يحضره أحد من القضاة ولا الموقعين ولا كاتب الجيش إلا إن عُرضت حاجة إلى طلب أحد منهم وهذا القعود عادته طول السنة ما عدا رمضان. وقد تغير بعد الأيام الناصرية هذا الترتيب فصرت قضاة القضاة تجلس عن يمنة السلطان ويسرته فيجلس الشافعيّ عن يمينه ويليه المالكيّ ويليه قاضي العسكر ثم محتسب القاهرة ثم مفتي دار العدل الشافعيذ. ويجلس الحنفي عن يسرة السلطان ويليه الحنبليّ وصارت القصص تقرأ والقضاة وناظر الجيش يحضرون في يوم الخميس أيضًا وكانت العادة أيضا أنه إذا ولي أحد المملكة من أولاد الملك الناصر محمد بن قلاون فإنه عند ولايته يحضر الأمراء إلى داره بالقلعة وتفاض عليه الخلعة الخليفية السوداء ومن تحتها فرجية خضراء وعمامة سوداء مدوّرة ويقلد بالسيف العربي المذهب ويركب فرس النوبة ويسير والأمراء بين يديه والغاشية قدّامه والجاويشية تصيح والشبابة السلطانية يُنفخ بها والطبردارية حواليه إلى أن يعبر من باب النحاس إلى درج هذا الإيوان فينزل عن الفرس ويصعد إلى التخت فيجلس عليه ويقبّل الأمراء الأرض بين يديه ثم يتقدّمون إليه ويقبلون يده على قدر رتبهم ثم مقدمو الحلقة فذا فرغوا حضر القضاة والخليفة فتفاض التشاريف على الخليفة ويجلس مع السلطان على التخت ويُقلد السلطان المملكة بحضور القضاة والأمراء ويُشهد عليه ذلك ثم ينصرف ومعه القضاة فيمدّ السماط للأمراء فإذا انقضى أكلهم قام السلطان ودخل المصورة وانصرف الأمراء. ومما قيل في هذا الإيوان لمّا بناه السلطان الملك الناصر: شرفتَ إيوانًا جلستَ بصدرِهِ فَشَرَحْتَ بالإحسانِ منهُ صُدورا قد كاد يستعلي الفراقدُ رفعةً إذ حاز منكَ الناصرُ المنصورا مَلُِ الزمانِ ومن رعيةِ مُلكِهِ مِنَ عدلِهِ لا يظلمونَ نقيرا لا زال منصورُ اللواءِ مؤيدًا أبدَ الزمانِ وضدّهُ مقهورا يا ملكًا أطلعَ من وجهِهِ إيوانُهُ لما بدا بدرا أنسيتنا بالعدلِ كِسرى ولَنْ نرضى لنا جبرًا به كسرا القصر الأبلق: هذا القصر يشرف على الإصطبل أنشأه الملك الناصر محمد بن قلاون في شعبان سنة ثلاث عشرة وسبعمائة وانتهت عمارته في سنة أربع عشرة وأنشأ بجواره جنينة ولما كمل عمل فيه سماطًا حضره الأمراء وأهل الدولة ثم أفيضت عليهم الخلع وحمل إلى كلّ أمير من أمراء الطبلخاناه عشرة آلاف درهم فضة عنها خمسمائة دينار فبلغت النفقة على هذا المهم خمسمائة ألف ألف درهم وخمسمائة ألف درهم. وكانت العادة أن يجلس السلطان بهذا القصر كلّ يوم للخدمة ما عدا يومي الاثنين والخميس فإنه يجلس للخدمة بدار العدل كما تقدّم ذكره وكان يخرج إلى هذا القصر المطلّ على الإصطبل وتارة يقعد دونه على الأرض والأمراء وقوف على ما تقدّم خلا أمراء المشورة والقرباء من السلطان فإنه ليس لهم عادة بحضور هذا المجلس ولا يحضر هذا المجلس من الأمراء الكبار إلاّ من دعت الحاجة إلى حضوره ولا يزال السلطان جالسًا إلى الثالثة من النهار فيقوم ويدخل إلى قصوره الجوّانيية ثم إلى دار حريمه ونسائ ثم يخرج في أخريات النهار إلى قصوره الجوّانية فينظر في مصالح ملكه ويعبر إليه إلى قصوره الجوّانية خاصته من أرباب الوظائف في الأشغال المتعلقة به على ما تدعو الحاجة إليه ويقال لها خدمة القصر وهذا القصر تجاه بابه رحبة يُسلك إليها من الرحبة التي تجاه الإيوان فيجلس بالرحبة التي على باب القصر خواص الأمراء قبل دخولهم إلى خدمة القصر ويمشي من باب القصر في دهاليز مفروشة بالرخام قد فرش فوقه أنواع البسط إلى قصر عظيم البناء شاهق في الهواء بإيوانين أعظمهما الشماليّ يُطلّ منه على الإصطبلات السلطانية ويمتدّ النظر إلى سوق الخيل والقاهرة وظواهرها إلى نحو النيل وما يليه من بلاد الجيزة وقراها وفي الإيوان الثاني القبليّ باب خاص لخروج السلطان وخواصه منه إلى الإيوان الكبير أيام الموكب ويدخل من هذا القصر إلى ثلاثة قصور جوّانية منها واحدج مُسامِتٌ لأرض هذا القصر واثنان يُصعد إليهما بدرج في جميعها شبابيك حديد تشرف على مثل منظرة القصر الكبير وفي هذه القصور كلها مجاري الماء مرفوعًا من النيل بدواليب تديرها الأبقار من مقرّه إلى موضع ثم إلى آخر حتى ينتهي الماء إلى القلعة ويدخل إلى القصور السلطانية إلى دور الأمراء الخواص المجاورين للسلطان فيجري الماء في دورهم وتدور به حماماتهم وهو من عجائب الأعمال لرفعته من الأرض إلى السماء قريبًا من خمسمائة ذراع من مكان إلى مكان ويدخل من هذه القصور إلى دور الحريم وهذه القصور جميعها من ظاهرها مبنية بالحجر الأسود والحجر الأسفر موزرة من داخلها بالرخام والفصوص المذهبة المشجرة بالصدف والمعجون وأنواع الملوّنات وسقوفها كلها مذهبة قد موّهت باللازورد والنور يخرق في جدرانها بطاقات من الزجاج القبرسيّ الملوّن كقطع الجوهر المؤلفة في العقود وجميع الأراضي قد فرشت بالرخام المنقول إليها من أقطار الأرض مما لا يوجد مثله وتشرف الدور السلطانية من بعضها على بساتين وأشجار وساحات للحيوانات البديعة والأبقار والأغنام والطيور والدواجن وسيأتي إن شاء الله تعالى ذكر هذه القصور والبساتين والأحواش مفصلًا. وكان بهذا القصر الأبلق رسوم وعوايد تغير كثير منها وبطل معظمها وبقيت إلى الآن بقايا من شعار المملكة ورسوم السلطنة وسأقص من أنباء ذلك إن شاء الله تعالى ما لا تراه هذا الكتاب مجموعًا والله يؤتي فضله من يشاء. الأسمطة السلطانية: وكانت العادة أن يمدّ بالقصر في طرفي النهار من كلّ يوم أسمطة جليلة لعامّة الأمراء خلال البرّانيين وقليل ما هم. فبكرة يمدّ سماط أوّل لا يأكل منه السلطان ثم ثان بعده يُسمى الخاص قد يأكل منه السلطان وقد لا يأكل ثم ثالث بعده ويُسمى الطارىء ومنه مأكول السلطان. وأما في آخر النهار فيمتدّ سماطان الأوّل والثاني المسمى بالخاص ثم إن استدعي بطارىء حضِّر وإلاّ فلا ما عدا المشويّ فإنه ليس له عادة محفوظة النظام بل هو على حسب ما يُرسم به وفي كلّ هذه الأسمطة يؤكل ما عليها ويفرّق نوالات ثم يُسقى بعدها الأقسماء المعمولة من السكر والأفاويه المطيبة بماء الورد المبرّدة وكانت العادة أن يبيت في كلّ ليلة بالقرب من السلطان أطباق فيها أنواع من المطجنات والبوارد والقطر والقشطة والجبن المقليّ والموز والسكباج ليتشاغلوا بالمأكول والمشروب عن النوم ويكون الليل مقسومًا بينهم بساعات الرمل فإذا انتهت نوبة نبهت التي تليها ثم ذهبت هي فنامت إلى الصباح هكذا أبدًا سفرًا أو حضرًا وكانت العادة أيضًا أن يبيت في المبيت السلطانيّ من القصر أو المخيم إن كان في السرحة المصاحف الكريمة لقراءة من يقرأ من أرباب النوبة ويبيت أيضًا الشطرنج ليتشاغل به عن النوم. وبلغ مصروف السماط في كلّ يوم عيد الفطر من كلّ سنة خمسين ألف درهم عنها نحو ألفين وخمسمائة دينار تنهبه الغلمان والعامّة وكان يُعمل في سماط الملك الظاهر برقوق في كل يوم خمسة آلاف رطل من اللحم سوى الأوز والدجاج وكان راتب المؤيد شيخ في كلّ يوم لسماطه وداره ثمانمائة رطل من اللحم فلما كان في المحرّم سنة ست وعشرين وثمانمائة سأل الملك الأشرف برسباي عن مقدار ما يُطبخ له في كلّ يوم بكرة وعشيًا فقيل له: ستمائة رطل في الوجبتين فأمر أن يُطبخ راتب اللحم في كل يوم بزيادة أيام الخدمة ونقصان أيام عد الخدمة خمسمائة رطل وستة أرطال عن وجبتي الغداء والعشاء ومن الدجاج ستة وعشرين طائرًا ولعمل المأمونية رطلين ونصفًا من السكر وما يُعمل برسم الجمدارية فإنه بعسل النحل. العلامة السلطانية قد جرت العادة أن السلطان يكتب خطه على كل ما يأمر به فأمّا مناشير الأمراء والجند وكلّ من له إقطاع فإنه يكتب عليه علامته وكتبها الملك الناصر محمد بن قلاون الله أملي وعمل ذلك الملوك بعده إلى اليوم وأما تقاليد النوّاب وتواقيع أرباب المناصب من القضاة والوزراء والكتاب وبقية أرباب الوظائف وتواقيع أرباب الرواتب والإطلاقات فإنه يكتب عليها اسمه واسم أبيه إن كان أبوه ملكًا فيكتب مثلًا محمد بن قلاون أو شعبان بن حسين أو فرج بن برقوق وإن لم يكن أبوه ممن تسلطن كبرقوق أو شيخ فإنه يكتب اسمه فقط ومثاله برقوق أو شيخ. وأما كتب البريد وخلاص الحقوق والظلامات فإنه يكتب أيضًا عليها اسمه وربما كرّم المكتوب إليه فكتب إليه أخوه فلان أو والده فلان وأخوه يكتب للأكابر من أرباب الرتب والذي يعلم عليه السلطان أما إقطاع فالرسم فيه أن يُقال خرج الأمر الشريف وأما وظائف ورواتب وإطلاقات فالرسم في ذلك أن يُقال رُسم بالأمر الشريف وأعلى ما يُعلم ما افتتح بخطبة أولها الحمد لله ثم ما افتتح بخطبة أوّلها أما بعد حمد الله حتى يأتي على خرج الأمر في الناشير أو رسم بالأمر وتمتاز المناشير المفتتح فيها بالحمد لله. أوّل الخطبة أن تطغر بالسواد وتتضمن اسم السلطان وألقابه وقد بطلت الطغرافي وقتنا هذا وكانت العادة أن يُطالع نوّاب المملكة السلطان بما يتجدّد عندهم تارة على أيدي البريدية وتارة على أجنحة الحمام فتعود إليهم الأجوبة السلطانية وعليها العلامة فإذا ورد البريديّ أحضره أمير جاندار وهو من أمراء الألوف والدوادار وكاتب السرّ بين يدي السلطان فيقبّل البريدي الأرض ويأخذ الدوادار الكتاب فيمسحه بوجه البريدي ثم يناول للسلطان فيفتحه ويجلس حينئذ كاتب السرّ ويقرأ على السلطان سرًا فإن كان أحد من الأمراء حاضرًا تنحى حتى يفرغ من القراءة ويأمر السلطان فيه بأمر وإن كان الخبر على أجنحة الحمام فإنه يكتب في ورق صغير خفيف ويحمل على الحمام الأزرق وكان لحمام الرسائل مراكز كما كان للبريد مراكز وان بين كلّ مركزين من البريد أميال وفي كلّ مركز عدّة خيول كما بيناه في ذكر الطريق فيما بين مصر والشام وكانت مراكز الحمام كلّ مركز منها ثلاثة مراكز من مراكز البريد فلا يتعدّة الحمام ذلك المركز ويُنقل عند نزوله المركز على ما على جناحه إلى طائر حتى يسقط بقلعة الجبل فيُحضره البرّاج ويقرأ كاتب السرّ البطاقة وكلّ هذا مما يعلم عليه بالقصر ومما كان يحضر إلى القصر بالقلعة في كلّ يوم ورقة الصباح يرفعها وإلى القاهرة ووالي مصر وتشتمل على إنهاء ما تجدّد في كل يوم وليلة بحارات البلدين وأخطاطهما ن حريق أو قتل قتيل أو سرقة سارق ونحو ذلك ليأمر الأشرفية: هذا القصر المعروف بالأشرفية أنشأ الملك الأشرف خليل بن قلاون في سنة اثنتين وتسعين وستمائة ولما فرغ صنع به مهمًا عظيمًا لم يعمل مثله في الدولة التركية وختن أخاه الملك الناصر محمد بن قلاون وابن أخيه الأمير موسى بن الصاحل عليّ بن قلاون وجمع سائر أرباب الملاهي وجميع الأمراء ووقف الخزاندارية بأكياس الذهب فلما قام الأمراء من الخاصكية للرقص نثر الخزاندارية على كلّ من قام للرقص حتى فرغ الختان فأُنعم على كلّ أمير من الأمراء بفرس كامل القماش وألبس خلعة عظيمة وأُنعم على عدّة منهم كلّ أمير من الأمراء بفرس كامل القماش وألبس خلعة عظيمة وأُنعم على عدّة منهم كلّ واحد بألف دينار وفرس وأ عم على ثلاثين من الأمراء الخاصكية لكل واحد مبلغ خمسة آلاف دينار وأُنعم على البليبل المغني بألف دينار وكان الذي عمل في هذا المهم من الغنم ثلاثة آلاف رأس ومن البقر ستمائة رأس ومن الخيل خمسمائة أكديس ومن السكر برسم المشروب ألف قنطار وثمانمائة قنطار وبرسم الحلوى مائة وستون قنطارًا وبلغت النفقة على هذا المهمّ في عمل السماط والمشروب والأقبية والطراز والسروج وثياب النساء مبلغ ثلاثمائة ألف دينار عينًا. البيسرية: ومن جملة دور القعلة قاعة البيسرية أنشأها السلطان الملك الناصر حسن بن محمد بن قلاون وكان ابتداء بنائها في أوّل يوم من شعبان سنة إحدى وستين وسبعمائة ونهاية عمارتها في ثامن عشري ذي الحجة من السنة المذكورة فجاءت من الحسن في غاية لم يُر مثلها وعمل لهذه القاعة من الفرش والبسط ما لا تدخل قيمته تحت حصر فمن ذلك تسعة واربعون ثريا برسم وقود القناديل جملة ما دخل فيها من الفضة البيضاء الخالصة المضروبة مائتا ألف وعشرون ألف درهم وكلها مطلية بالطهب وجاء ارتفاع بناء هذه القاعة طولًا ف يالسماء ثمانية وثمانين ذراعًا وعمل السلطان بها برجًا يبين فيه من العاج والأبنوس مطعَّم يجلس بين يديه وأكناف وباب يدخل منه إلى أرض كذلك وفيه مقرنص قطعة واحدة يكاد يذهل الناظر إليه بشبابيك ذهب خالص وطرازات ذهب مصوغ وشرافات ذهب مصوغ وقبة مصوغة من ذهب صرف فيه ثمانية وثلاثون ألف مثقال من الذهب وصرف في مؤنة وأجره تتمة ألف درهم فضة عنها خمسون ألف دينار ذهبًا وبصدر إيوان هذه القاعة شباك حديد يقارب باب زويلة يطل على جنينة بديعة الشكل. الدهيشة: عمّرها السلطان الملك الصالح عماد الدين إسماعيل بن محمد بن قلاون في سنة خمس واربعين وسبعمائة وذلك أنه بلغه عن الملك المؤيد عماد الدين صاحب حماه أنه عمر بحماه دهيشة لم يبن مثلها فقصد مضاهاته وبعث الأمير أقجبا وابجيج المهندس لكشف دهيشة حماه وكتب لنائب حلب ونائب دمشق بحلم ألف حجر بيض وألف حجر حمر من حلب ودمشق وحشرت الجمال لحملها حتى وصلت إلى قلعة بالجبل وصرف في حمولة كلّ حجر من حلب إثنا عشر درهمًا ومن دمشق ثمانية دراهم واستدعى الرخام من سائر الأمراء وجميع الكناب ورسم بإحضار الصناع للعمل ووقع الشروع فيها حتى تمت في شهر رمضان منها وقد بلغ مصروفها خمسمائة ألف درهم سوى ما قدم من دمشق وحلب وغيرهما وعمل لها من الفرش والبسط والآلات ما يجلّ وصفه وحضر بها سائر الأغاني وكان مهمًا عظيمًا. السبع قاعات: هذه القاعات تشرف على الميدان وباب القرافة عمّرها الملك الناصر محمد بن قلاون وأسكنها سراريه ومات عن ألف ومائتي وصيفة مولدة سوى من عداهنّ من بقية الأجناس. الجامع بالقلعة: هذا الجامع أنشأه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون في سنة ثمان عشرة وسبعمائة وكان قبل ذلك هناك جامع دون هذا فهدمه السلطان وهدم المطبخ والحوائجخاناه والفرشخاناه وعمله جامعًا ثم أخربه في سنة خمس وثلاثين وسبعمائة وبناه هذا البناء فلما تم بناؤه جلس فيه واستدعى جميع مؤذني القاهرة ومصر وجميع القرّاء والخطباء وعرضوا بين يديه وسمع تأذينهم وخطابتهم وقراءتهم فاختار منهم عشرين مؤذنًا رتبهم فيه وقرّر فيه درس فقه وقارئًا يقرأ في المصحف وجعل عيه أوقافًا تكفيه وتفيض وصار من بعده من الملوك يخرجون أيام الجمع إلى هذا الجامع ويُحضر خاصة الأمراء معه من القصر ويجيء باقيهم من باب الجامع فيصلي السلطان عن يمين المحراب في مقصورة عن يمنتها ويسرتها على مراتبهم فذا انقضت الصلاة دخل إلى قصوره ودور حرمه وتفرّق كل أحد إلى مكانه. وهذا الجامع متسع الأرجاء مرتفع البناء مفروش الأرض بالرخام مبطن السقوف بالذهب وبصدره قبة عالية يليها مقصورة مستورة هي والرواقات بشبابيك الحديد المحكمة الصنعة ويحف صحنه رواقات من جهاته.
|